في عمق المدينة المنورة، وبين تفرعات وادي العقيق الخصيب، يقع أحد الشواهد الحية على العمارة الإسلامية المبكرة والتاريخ السياسي للمدينة بعد عهد الخلفاء الراشدين، إنه قصر سعيد بن العاص، معلم أثري صامت يحكي الكثير عن تاريخ من تولّى حكم المدينة في إحدى المراحل الدقيقة من تطورها.
قصر سعيد بن العاص ليس مجرد مبنى متهدم أو أطلال باهتة، بل هو جزء من نسيج تاريخي متكامل ينبض بالحياة في العرصة الصغرى من وادي العقيق، بالقرب من الموقع الذي تحتله اليوم الجامعة الإسلامية بالمدينة، لطالما تميز هذا الموقع بجماله الطبيعي، إذ كان واحة خضراء تمتلئ بالنخيل والمياه الجارية، وهو ما جعله موقعًا مثاليًا لبناء القصور في العصور الإسلامية الأولى.
الخلفية التاريخية لبناء القصر
يعود بناء القصر إلى منتصف القرن الأول الهجري، عندما تولى الصحابي الجليل سعيد بن العاص، رضي الله عنه، ولاية المدينة المنورة في عهد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، وقد شُيّد القصر ليكون مقرًا للحكم والإدارة، وأيضًا ملاذًا للراحة والاستجمام وسط طبيعة وادي العقيق الساحرة.

نظرة معمارية على القصر
بني القصر بأسلوب يعكس التقدم المعماري في تلك المرحلة، باستخدام مواد محلية مثل الحجارة الجرانيتية، والجص، والطوب المحروق. ويُعتقد أن بعض أجزاء القصر أُعيد بناؤها أو ترميمها لاحقًا، ما يدل على استمرار استخدامه أو على الأقل المحافظة عليه لفترة طويلة.
التفاصيل المعمارية، كالنقوش الجصية والزخارف المصنوعة بعناية، تعكس ذوقًا رفيعًا وتجربة فنية متطورة في ذلك العصر، رغم خلو الجدران من الكتابات أو الرسوم الواضحة. وهذا ما يميز القصر عن كثير من المعالم الإسلامية التي تمتلئ بالنقوش.
أبعاد ومساحة القصر
تُظهر القياسات الحالية لأطلال القصر أنه كان يمتد على مساحة تبلغ 36 مترًا طولًا و27 مترًا عرضًا، بينما ترتفع أطلاله لما يقارب 9 أمتار، ما يُعطي تصورًا جيدًا لحجم البناء في زمنه. جدرانه، التي يبلغ سمكها حوالي 75 سم، بُنيت من حجارة غير منحوتة، ما يدل على اعتماد مباشر على الموارد الطبيعية المتوفرة في المنطقة.
إحدى الزوايا المميزة في البناء هي ما يُعتقد أنه “دكة” معدة للجلوس، كانت تُستخدم على الأرجح في جلسات السمر والمناقشات، إضافة إلى آثار مجاورة قد تكون منازل أو بيوتًا صغيرة تابعة للقصر.
آثار تحكي الماضي
أعمال التنقيب الحديثة في منطقة وادي العقيق لم تكتفِ بكشف بقايا القصر فحسب، بل أزاحت الستار عن مجموعة واسعة من القطع الأثرية التي تشير إلى استيطان بشري وثقافة متمدنة. عُثر على كسر أوانٍ زجاجية، وأدوات معدنية تزيينية، وأساسات لقصور أخرى تعود لنفس الفترة أو ما بعدها مثل قصر عروة بن الزبير وقصر سكينة بنت الحسين.
إرث لا يُقدّر بثمن
قصر سعيد بن العاص ليس مجرد بقايا بناء، بل هو شاهد على مرحلة من تاريخ المدينة المنورة انتقلت فيها من دورها الديني إلى دور إداري وسياسي بارز في الدولة الإسلامية الناشئة. وموقعه الفريد، بالقرب من منابع العقيق، يجعل منه معلمًا يستحق الزيارة والدراسة، ليس فقط لفهم فنون العمارة، بل لفهم السياق التاريخي والسياسي الذي شُيّد فيه.
شاهد أيضاً:
اكتشف المواقع التاريخية في الدمام والمنطقة الشرقية
رأس تنورة: شاطئٌ ساحر في قلب المنطقة الشرقية
4 أماكن يجب عليك زيارتها في المنطقة الشرقية